كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم بيَّن تعالى ضلال المشركين في تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب وغيرها، مفصلًا ما حرمه مما ليس فيه كانوا يحرمونه بأهوائهم، وهو مأذون بأكله كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [114].
{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ} أي: من الحرث والأنعام: {حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي: تريدون عبادته فاستحلوها، فإن عبادته في تحليلها، واشكروه فإنه المنعم المتفضل بذلك وحده.
ثم ذكر ما حرمه عليهم، مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم، بقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} أي: ذبح على اسم غيره تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: أجهد إلى ما حرم الله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} أي: متعد قدر الضرورة وسد الرمق: {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: فلا يؤاخذه بذلك.
وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية. فأغنى عن إعادته.
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم، في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها، مما كان شرعًا لهم ابتدعوه في جاهليتهم، فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أي: لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله. فـ {الكذب} مفعول {تقولوا} وقوله: {هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} بدل من {الكذب} واللام صلة للقول، كما يقال: لا تقل للنبيذ إنه حلال، أي: في شأنه وحقه. فهي للاختصاص، وفيه إشارة إلى أنه مجرد قول باللسان، لا حكم مصمم عليه. أو: {هَذا حَلال} مفعول {تقولوا} و{الكذب} مفعول {تصف} واللام في: {لِمَا تَصِفُ} تعليلية، و{ما} مصدرية، ومعنى تصف: تذكر، وقوله: {لِّتَفْتَرُواْ} بدل من التعليل الأول. أي: لا تقولوا: هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب، أي: لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة، وليس بتكرار مع قوله: {لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} لأن هذا لإثبات الكذب مطلقًا، وذلك لإثبات الكذب على الله. فهو إشارة إلى أنهم، لتمرنهم على الكذب، اجترؤوا على الكذب على الله، فنسبوا ما حللوه وحوموه إليه، وعلى هذا الوجه- كون الكذب مفعول {تصف}- ففي وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب؛ لجعله عين الكذب. ترقى عنها إلى أن خيل أن ماهية الكذب كانت مجهولة، حتى كشف كلامهم عن ماهية الكذب وأوضحها، فـ {تصف} بمعنى توضح. فهو بمنزلة الحد والتعريف الكاشف عن ماهية الكذب. فالتعريف في الكذب للجنس. كأنَّ ألسنتهم إذا نطقت كشفت عن حقيقته، وعليه قول المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن ** فبات برامة يصف الكلالا

ونحوه: {نهاره صائم} إذا وصف اليوم بما يوصف به الشخص؛ لكثرة وقوع ذلك الفعل فيه، و{وجهها يصف الجمال} لأن وجهها لما كان موصوفًا بالجمال الفائق، صار كأنه حقيقة الجمال ومنبعه، الذي يعرف منه. حتى كأنه يصفه ويعرِّفه، كقوله:
أضحت يمنيك من جود مصورة ** لا بل يمنيك منها صور الجود

فهو من الإسناد المجازي. أو نقول: إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال. فهو استعارة مكنية. كأنه يقول: ما بي هو الجمال بعينه، ومثله ورد في كلام العرب والعجم. هذا زبدة ما في شروح الكشاف.
وما في الآية أبلغ من المثال المذكور، لما سمعت. أفاده في العناية، واللام في: {لِّتَفْتَرُواْ} لام الصيرورة والعاقبة المستعارة من التعليلية؛ إذ ما صدر منهم ليس لأجل هذا، بل لأغراض آخر يترتب عليها ما ذكر، وجوَّز كونها تعليلية، وقصدهم لذلك غير بعيد، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ} الآية، وعيد شديد بعدم ظفرهم وفوزهم بمطلوب يعتد له لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا، فلأن ما يفترون لأجله متاع قليل ينقطع عن قريب، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم، كما قال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24].
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: يدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي أو حلل شيئًا مما حرم الله. أو حرَّم شيئًا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهيه.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: فرأت هذه الآية في سورة النحل، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قال في فتح البيان: صدق رحمه الله. فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقع كثيرًا من المُؤْثِرَين للرأي المقدمين له على الرواية، أو الجاهلين بعلم الكتاب والسنة.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: عسى رجل يقول: إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا. فيقول الله عز وجل: كذبت، أو يقول: إن الله حرَّم كذا وأحلَّ كذا: فيقول الله له: كذبت.
قال ابن العربي: كره مالك وقوم أن يقول المفتي: هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية، وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه، ويقال في المسائل الاجتهادية: إني أكره كذا وكذا، ونحو ذلك.
ولما ذكر تعالى ما حرمه علينا من الميتة والدم إلخ، بيَّن ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم مما ليس فيه أيضًا شيء مما حرمه المشركون؛ تحقيقًا لافترائهم بأن ما حظروه لا سند له في شريعة سابقة ولا لاحقة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [118- 119].
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ} يعني اليهود: {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} أي: في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146]. الآية {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أي: فيما حرمنا عليهم: {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: فاستحقوا ذلك. كقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160]، وقد سلف لنا ما ذكروه في تفسيرها مما يجيء هنا، فتذكر. قالوا: في الآية تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم. فإن هذه الأمة لم يحرم عليها إلا ما فيه مضرة لها، وغيرهم قد يحرم عليهم ما لا ضرر فيه، عقوبة لهم بالمنع، كاليهود.
ثم بيَّن تعالى عظيم فضله في قبول توبة من تاب من العصاة بقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ} أي: العمل فيما بينهم وبين ربهم: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: التوبة: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
ثم نوه تعالى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، دعاء لهم إلى سلوك طريقته في التوحيد، ورفض الوثنية، وتبرئة لمقامه، مما كانوا يفترون عليه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [120- 121].
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي: إمامًا يقتدى به، كقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]. أو كان وحده أمة من الأمم؛ لاستجماعه كمالات لا توجد في غيره: {قَانِتًا لِلّهِ} أي: خاشعًا مطيعًا له، قائمًا بما أمره: {حَنِيفًا} أي: مائلًا عن كل دين باطل إلى الدين الحق: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ} أي: قائمًا بشكر نعم الله عليه، مستعملًا لها على الوجه الذي ينبغي، كقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، أي: قام بجميع ما أمره الله تعالى به: {اجْتَبَاهُ} أي: اختاره واصطفاه للنبوة: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو عبادة الله وحده لا شريك له، على شرع مرضي.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [122- 123].
{وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} أي: من الذكر الجميل، كما قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50]، ومن الصلاة والسلام عليه، كما قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ} [الصافات: 108- 109]، ومن تمتيعه بالحظوظ ليتقوى على القيام بحقوق العبودية: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ} أي: في عالم الأرواح: {لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي: المتمكنين في مقام الاستقامة، بإيفاء كل ذي حق حقه، الذين لهم الدرجات العليا في الجنة.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين، شرفناه وكرمناه بأمرنا، بإتباعك إياه في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع. كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها، لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها، فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع، وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق. قاله القاشانِيِّ.
وفي الإكليل: استدل أصحابنا بهذه الآية على وجوب الختان، وما كان من شرعه، ولم يرد به ناسخ.
لطيفة:
قال الزمخشري: في: {ثُمَّ} هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من الكرامة، وأجلِّ ما أولي من النعمة؛ إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها.
قال الناصر: وإنما تفيد ذلك: {ثم} لأنها في أصل وضعها لتراخي المعطوف عليه في الزمان. ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة، بحيث يكون المعطوف على رتبته أشمخ محلًا مما عطف عليه. فكأنه بعد أن عدَّد مناقب الخليل عليه السلام، قال تعالى وها هنا ما هو أعلى من ذلك كله قدرًا، وأرفع رتبةً، وأبعد رفعةً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم الأمي، الذي هو سيد البشر، متبع لملة إبراهيم، مأمور بإتباعه بالوحي، متلوًُّا أمره بذلك في القرآن العظيم. ففي ذلك تعظيم لهما جميعًا. لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر، على ما مهدناه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [124].
{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} يعني اليهود، فرض عليهم تقديسه وإراحة أنفسهم ودوابهم فيه من الأعمال. فاعتدوا فيه واحتالوا لحلِّه.
قال القاشاني: أي: ما فرض عليك، إنما فرض عليهم. فلا يلزمك إتباع موسى في ذلك، بل إتباع إبراهيم، وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: بالمجازاة على اختلافهم، يعني إفسادهم وزيغهم عن طريق الحق.
ثم بيَّن تعالى أدب الدعوة إلى دينه الحق، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [125].
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} أي: بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهو الدليل الموضح للحق، المزيح للشبهة: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} أي: العبر اللطيفة والوقائع المخيفة، ليحذروا بأسه تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة، من الرفق واللين، وحسن الخطاب، من غير عنف، فإن ذلك أبلغ في تسكين لهبهم، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي: عليك البلاغ والدعوة بالصفة المبينة، فلا تذهب نفسك على من ضلَّ منهم حسرات، فإنه ليس عليك هُدَاهُمْ؛ لأنه هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه، فيجازي كلًا منهما بما يستحقه. أو المعنى: اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة. فإن الله تعالى هو أعلم بحال من لا يرعوي عن الضلال بموجب استعداده المكتسب، وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلِّي. فما شرعه لك في الدعوة، هو الذي تقتضيه الحكمة. فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين. أفاده أبو السعود.
تنبيه:
دلَّ قوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} على الحث على الإنصاف في المناظرة، وإتباع الحق، والرفق والمداراة، على وجه يظهر منه أن القصد إثبات الحق وإزهاق الباطل، وأن لا غرض سواه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [126].
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} أي: الزموا سيرة العدالة، لا تجاوزوها. فإنها أقل درجات كمالكم. فإن كان لكم قدم في الفتوة، وعرق راسخ في الفضل والكرم والمروءة؛ فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم، وعارضوه بالعفو مع القدرة، واصبروا على الجناية، فإنه: {لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في جوابه، وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال: {لَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} بل قال: {لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر. فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب. فلم يتكدر بظهور صفة النفس، وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه. فكثيرًا ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس، وتنكسر سورة غضبه فيصلح، وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف، فلا تعاقبوا المسيء بسورة الغضب بأكثر مما جنى عليكم فتظلموا، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها، فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني. أفاده القاشانِيِّ.
تنبيهات:
الأول: في الإكليل: قال ابن العربي: في الآية جواز المماثلة في القصاص خلافًا لمن قال: لا قود إلا بالسيف، ويستدل بها لمسألة الظفر، كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين والنخعي؛ أنهما استدلا بها عليها، ولفظ النَّخَعِي: سئل عن الرجل يخون الرجل ثم يقع له في يده الدراهم؟ قال: إن شاء ذهب من دراهمه بمثل ما خانه. ثم قرأ هذه الآية، ولفظ ابن سيرين: إن أخذ منكم رجل شيئًا، فخذوا مثله.
قال ابن كثير: وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم، واختاره ابن جرير. فعمومها يشمل العدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق.